من الأسئلة التي تتبادر إلى أذهاننا ونشعر تجاهها بالفضول عند مرحلة ما من حياتنا هو ذلك السؤال المتعلّق بتلك الكلمة الشائعة التي يبدو وقعها على النفس جميلاً لكنه مبهم وغامض في ذات الوقت. تلك الكلمة السحرية التي نستطيع من خلالها من وصف عدد لا نهائي من الأشياء التي يصعب التعبير عنها فنجد بأننا نكتفي بأن نسمّيها بتلك الكلمة التي لا نملّ أبداً من استخدامها: فن!
“يبدأ الفن عندما يقوم الإنسان، بهدف نقل الأحاسيس التي تختلج في داخله إلى الآخرين، بإثارة هذه الأحاسيس في ذاته ثم التعبير عنها بإشارات خارجية معروفة.”
ماهو الفن؟ من الإجابات المختلفة تماماً عن ما تعوّدنا عليه من نصوص أكاديمية مليئة بالمصطلحات المعقّدة، هي إجابة الفيلسوف الروسي الواسع الإطلاع ليو تولستوي والتي تتمثّل في كتاب قضى في تأليفه ١٥ عام من البحث والتقصّي تحت عنوان واضح وبسيط يناسب فلسفته الموجّهة لعامة الناس كما هي العادة: ماهو الفن؟
بعد الكتابة عن التاريخ المرافق لكلمة “الفن” وأهم الآراء والكتب التي تحدّثت عنه يجد تولستوي بأن السِمة الوحيدة المشتركة بين كل الفنون الحقيقة، بغض النظر عن مضمونها وما تحتويه، هي سِمة العدوى! فمهما تنوّعت الأحاسيس سواء كانت قويّة، ضعيفة، تافهة أو سيئة فإنها في حال انتقلت إلى القارئ أو المشاهد أو المستمع فهي تصبح بذلك مادةً للفن. كما لاحظ تولستوي أيضاً بأن هناك ثلاثة شروط من الضروري توفّرها لنجاح انتقال تلك العدوى، وهي تتلخّص في: المزيّة، الجَلاء، والصِدق.
“إن الطفل الذي عانى فرضاً من الخوف، عند لقاء الذئب، وبُغية إثارة المشاعر التي عاناها عند الآخرين يتحدث عن هذا اللقاء، ويصوّر نفسه، ووضعه قبل ذلك اللقاء، يصور الوضع: الغابة، وعدم اكتراثه، ثم يصوّر منظر الذئب وحركاته والمسافة التي بينهما وماشابه ذلك. فإذا عانى الطفل في أثناء حديثه ثانية من المشاعر نفسها التي عاناها سابقاً، وإذا أعدى المستمعين إليه، وأرغمهم أن يعانوا كل المشاعر التي عاناها هو فهذا هو الفن. وإذا لم يكن الطفل قد رأى الذئب، إنما كان يخافه غالباً، وإذا رغب في أن ينقل مشاعر الخوف التي يحس بها إلى الآخرين، وأخذ يختلق لقاء مع الذئب ثم بدأ يتحدث عن اللقاء بصورة تثير في المستمعين المشاعر ذاتها التي عانى منها وهو يتخيل الذئب، فهذا أيضاً فن.”
١. مزايا الأحاسيس المنقولة. فكلما كانت الأحاسيس خاصة بالفنان وفردانيته ولها تفاصيلها المميّزة كلما كان تأثيرها في المتلقي أقوى من تلك الأحاسيس المماثلة والمطابقة للأحاسيس العامة.
٢. الجلاء في نقل الأحاسيس. وهذا يتعلّق بقدرة الفنان ومدى إتقانه لأدواته والوسائط التي يستخدمها لنقل تلك الأحاسيس للآخرين. فكلّما كان متمكّناً منها كلّما كان تعبيره عن تلك الأحاسيس واضحاً وكان من السهل على المتلقي أن يندمج معها ويعايشها.
٣. مصداقية الفنان. والمقصود بذلك القوة أو الضعف في معاناة الفنان ذاته من تلك الأحاسيس التي ينقلها. فكلما كانت المعاناة من تلك الأحاسيس مباشرة ونابعة من التجربة كلما كانت تلك الأحاسيس أعمق وأصدق وأكثر عرضة للعدوى من غيرها.
غياب أي شرط من تلك الشروط وخصوصاً الشرط الثالث منها من شأنه أن ينسب العمل ليس إلى الفن الحقيقي، بل إلى الفن المزّيف. لكن في حال توفّرت الشروط ولو بدرجات محدودة، فإن العمل يُعد نتاجاً فنّياً حقيقياً ولو كان ضعيفاً. هذا ما يفصل الفن عن غير الفن في نظر تولستوي، أمّا ما يحدد إن كان مضمون الفن جيد أم رديء فهو موضوع آخر . المهم أن نحدد ماهو الفن أولاً حتى يمكننا الحديث عن مضمونه الجمالي أو الأخلاقي أو الفلسفي بعد ذلك.