يمر الكثير منّا ، وخاصة من هم في عمر الشباب ، بالكثير من التحوّلات والتقلّبات في حياتهم والتي تنقلهم من مرحلة إلى اخرى ومن حالة ساكنة إلى حالة نشطة غير مستقرة بسبب الصعوبات التي ترافقها .
من أجمل ماقرأت من أوصاف لتلك التحوّلات التي نمر بها هو ما كتبه نيتشه في كتابه ، هكذا تكلّم زرادشت ، تحت عنوان : حول التحولات الثلاثة . يفتتح نيتشه ذلك الفصل فيقول :
" أحدثكم عن ثلاثة تحولات للروح : كيف تصبح الروح جملاً ، وكيف يصبح الجمل أسداً ، وكيف يصبح الأسد طفلاً في النهاية "
الجمل
وهي المرحلة الأولى التي غالباً مانجد أنفسنا فيها منذ أن نبدأ بإدراك البيئة التي تحيطنا . فالجمل هنا كناية عن الفترة التي نقوم فيها بحمل كل تلك التكليفات المتعلّقة بالمجتمع الذي نعيش فيه والتي تقوم الأسرة والمدرسة في العادة بغرسها فينا منذ الطفولة . فنحن في أثناء هذه المرحلة نستعرض قوتنا في استقبال وحمل كل تلك الأعباء لنُظهر للمجتمع مدى قدرتنا على التحمّل والمضي بها قدماً
"وفي أكثر الصحاري وحشة يحدث التحوّل الثاني ، هنا تصبح الروح أسداً إذ تريد أن تظفر بالحرية لنفسها ، وأن تكون سيدة في صحرائها الخاصة"
الأسد
غالباً مايسبق هذا التحوّل فترات من التعب واليأس والإحباط والنظرة السوداوية العامة للحياة . فالروح لا تستطيع حمل كل تلك الأعباء أكثر لتجد نفسها تندفع إلى الخلوة والانعزال لأطول وقت ممكن .. وفي أثناء ذلك يحدث التحوّل الثاني . الأسد هنا كناية عن ثورة الإنسان وقراره بقتال "التنين العظيم" الذي يُملي عليه في كل مرّة : "يتوجب عليك" .. فهو يعلن في هذه المرحلة رفضه لكل ذلك ، ويردد : "أنا أريد !"
"يا إخوتي ، ما الحاجة للأسد في روح الإنسان ؟"
الطفل
أن نقول "لا" للواجب ونكتسب حريتنا من جديد ليس أمراً كافياً . فقوة الأسد ضرورية لانتزاع الحرية ولكنها ليست بأكثر المراحل انسجاماً مع روح الإنسان التي تمتلك قدراً أكبر من الصبر واحترام الآخرين . فروح الإنسان عندما تفوز بحرّية العيش تتوق إلى ماهو أبعد ، إلى حريّة الإرادة و اكتساب قيم جديدة . فكما يتخلّى الواحد منّا عن قيم قديمة لا يرتضيها فإنه يكون بحاجة لاستبدالها بقيم اخرى يختارها هو لنفسه .. وحينها يحدث التحوّل الثالث . الطفل هنا كناية عن "البراءة " و "النسيان" و"البدايات الجديدة" . مرحلة مليئة بالتعلّم ، بإكتشاف العالم ، بالتواصل مع الآخرين ومساعدتهم .. مرحلة يتجاوز فيها الإنسان نفسه ليتألق كمخلوق يمثّل آية من آيات الله على الأرض .
التحوّل في ذاته أمر يناسب طبيعة الإنسان أكثر من السكون . فالسكون علامة من علامات الجمادات التي لا روح تشتعل فيها . ولكن علينا أن نتذكر بأن الفوز بحريتنا في اختيار الحياة التي نريدها أمر مقدّس ولكنه لا يعني أنه كل شيء .. فالروح تحتاج أن تصبح أسداً كي تفوز بذلك ولكنها أيضاً ترغب بعد ذلك بأن تعود طفلاً يبدأ من جديد ، يبني نفسه بنفسه ويبني أيضاً مجتمعه عن طريق مساعدة غيره في تجاوز الصعوبات التي يواجهونها في رحلة التحوّلات التي يمرّون بها في حياتهم .