“ عن تفكير الإنسان لنفسه “ هي مقالة للفيلسوف الألماني شوبنهاور كنت قد قرأتها وأعدت قرائتها أكثر من مرّة خلال السنتين الماضيتين ، وبسبب إعتقادي بأهميتها لكل شخص منّا وخاصة في هذا التوقيت من انتشار الكتب ومصادر المعلومات المتنوّعة على الإنترنت وجدت بأنه من الضروري الإشارة لها وتسليط بعض الضوء عليها .
ماذا يُقصد بـ “ تفكير الإنسان لنفسه “ ؟ المقصود بذلك هو بأن يفكر الإنسان بالأفكار التي يجدها في نفسه لحظة انفراده بها نتيجةً للواقع والبيئة والتجارب التي يعايشها ويمرّ بها .
لماذا يعدّ هذا أمراً ضرورياً ؟
هناك أسباب عديدة يتعرّض لها شوبنهاور في مقالته تجعل من تفكير الإنسان لنفسه أمراً مهماً وضرورياً . بدايةً ، ليس هناك أي أمر خاطئ في سهولة توفّر المعرفة لنا هذه الأيام بسبب تقدّم التكنلوجيا وحملنا للهواتف الذكّية ولكن ماقد يسببه استخدامنا الغير واعي لها من تقليص أو حجب فرصتنا في إمضاء بعض الوقت في التفكير بالأفكار التي تخصّنا هو مايشكّل خطراً على نضوج عقولنا وتحسّن معيشتنا . فنحن ، كما يصف شوبنهاور ، كلّما وجدنا سعةً من الوقت كان من المفترض أن نقضيها مع أنفسنا تجدنا في كل مرّة نلتقط كتاباً - أو جهاز الجوال - بدلاً من ذلك ، وهذا الضرب من ( الإدمان الذهني ) هو مايحوّل الكثير منّا مع مرور الوقت إلى أشخاص أكثر سخفاً وغباء مما جبلوا عليه . والسبب في ذلك يعود إلى أن الإفراط في القراءة والإطلاع يسلب الذهن قدرته ومرونته على التفكير وتحليل الأمور والمشاكل التي نضطر لمواجهتها كل يوم .
فالقراءة عند شوبنهاور هي ( التفكير برأس غيرك ) ، فهناك فرق بين الفكر الذي تقرأه والآخر الذي ينبع من داخلك : “فالفكر المقروء لا يمت إلى الفكر النابع من ذوات أنفسنا بصلة ، إلّا بقدر ماتمتّ الصورة المطبوعة لنبات في حفرية ماقبل التاريخ إلى البرعم المتفتّح في قلب الربيع” . لذلك ينصح شوبنهاور بأن لا نقرأ إلّا للعودة للكتب للتأكد مما كنّا نفكّر فيه والتيقّن من صحّتها أو إعادة صياغتها ، أو أيضاً عندما تركد أفكارنا ويصيبها الأسن .. أمّا تناول الكتب - وأجهزة الجوال - والإطلاع على مافيه من معلومات لا لشيء سوى للهروب من الوقت الذي نمضيه مع أنفسنا في اللحظة الراهنة ماهو إلّا تشتيت للأفكار النابعه من ذواتنا ، وكخطيئة نقترفها بلا رحمة تجاه أنفسنا .
لماذا تُعد أفكارنا الخاصة مهمّة إلى هذا الحد ، ففي النهاية ما نقرأه ونطّلع عليه هي أفكار أيضاً ؟!
تعود أهمّية التفكير بأفكارنا الخاصة لا أفكار غيرنا إلى كونها هي الأفكار الوحيدة التي نعرفها جيداً بسبب إحاطتنا لكل جوانبها ولذلك نحن نفهمها بشكل كامل أكثر من غيرنا . لهذا ، أفكارنا الخاصة تعتبر أفكاراً ( أصيلة ) وذلك لأنها نابعة من أذهاننا الخاصة ومترابطة معها ، بينما الأفكار التي نقرأها لا تكون بتلك الأصالة والإحاطة سوى في الأذهان التي أنتجتها . فنحن عندما نتبنّى أفكار المؤلفين وما نقرأه في الكتب - وأجهزة الجوال - من دون التفكير به أو ربطه مع أفكارنا الخاصة نكون كمن يهرب من روعة الطبيعة الحيّة ليحملق في متحف من النباتات الجافّة الميتة ، على حد وصف شوبنهاور .
بالإضافة إلى ذلك ، تعوُّدنا على تمضية بعض الوقت للتفكير في أفكارنا الخاصة بعيداً عن ما يشتتنا يوسّع من مداركنا وقدرة أذهاننا على توليد الأفكار وإيجاد الحلول بشكل متواصل مما ينعكس على نضج الإنسان وتطوّره الفكري ، بينما من ينشغل بالإطلاع على مواقع المعلومات وقراءة الكتب باستمرار من دون التفكير لنفسه هو كالمُخبر الصحفي الذي يقوم بنقل مايقوله هذا الكتاب وذلك المؤلف وذاك المصدر من دون التدبّر فيه ومقارنته مع أفكاره الخاصة التي لديه . ولهذا السبب يلاحظ شوبنهاور بأن من يفرط بالقراءة واستسقاء المعلومات بشكل يومي مستمر يغلب عليه التردد وخمول العقل واعتماده على الكتب وآراء من يعتبرهم مثقفين في تمثيل قناعاته الخاصة ، بينما نجد الإنسان الذي يفكر لنفسه أكثر وضوحاً وقدرة على الحكم المباشر وإبداء آرائه الخاصة إلى جانب اتساق ذهنيته و أصالة الأفكار التي ينفّذها أو يتحدث بها .
القدرة على القراءة هو أمر يستطيع من ممارسته أي انسان ، ولكن التفكير هو أمر يحتاج إلى حالة من انفراد الإنسان بنفسه وبما يشغل ذهنه من مشاعر وأفكار يجدها تملأه وتتردد عليه في لحظته الحاضره ، ولهذا فهو يُعدّ أمراً لا يحتمله أو يستطيع عليه إلّا القليل في ظل شراهتنا المستمرّة لاقتناء الكتب والنظر لشاشات أجهزتنا الإلكترونية لساعات طويلة كل يوم .