أن تحيا

تمت كتابة التدوينة ونشرها بتاريخ 29 أبريل 2016*

دائماً مايثير اهتمامي تغيّر منظر الإنسان وسلوكه عندما يعلم بأنه قد أُصيب بمرض مميت . عندما كنت صغيراً رأيت رجلاً قد عُرف في الحي الذي كنت أعيش فيه بشكيمته وقوته وشهيته المفتوحة دائماً للخصام وهو يتحوّل إلى انسان مسالم وطيب لا يقوى إلا على الإبتسامة بعد عودته من زيارة للمستشفى في أحد الأيام . قد كُتب لذلك الإنسان أن يعيش لسنوات اخرى طويله ، ولكنه لم يعُد بعد ذلك إلى سلوكه الفضّ القديم . اصبح يتفادى مواجهة الناس مع مرور الوقت ، وصار وقته محصوراً مابين عمله وعائلته ... 

ماجعلني أعود للذاكرة لأكتب عن ذلك الرجل هو الفيلم الذي قام به المخرج الياباني أكيرا كوروساو في سنة ١٩٥٢ والذي يحمل عنوان ( أن تحيا ) . 

KEnmrGEhKGIUoIrMqG2vVjSk0nkr1h_large

يتناول الفيلم قصة موظّف مسؤول في أحد القطاعات الحكومية يكتشف بعد أكثر من ثلاثين سنة من العمل الروتيني اليومي بأنه مصاب بسرطان في معدته وبأن أيامه على هذه الأرض ستكون معدودة . مطرقة الموت تضربه على رأسه فيستيقظ ! إنه يحدّق بعينين ثاقبتين في حياته ويعيد التفكير فيها مرة اخرى . 

screenshot-97

 إن أكثر مايلفتني في حضور الموت في وعي الإنسان هو قدرته المذهلة في أن يجعل الإنسان يتخلّى بشكل كامل وسريع عن الكثير من الأفكار والسلوكيات التي طالما كان يتعذّر بأنه لا يستطيع الفكاك منها . إن ماكان ينقصه هو الإرادة الكافية للقيام بذلك ، والموت يحقق له ذلك عن طريق بث رغبة الحياة في روح الإنسان مرّة اخرى ، وعندما تكون هناك رغبة في الحياة تكون هناك إرادة ، كما يقول نيتشه .

 " مجاورة الموت تعلّم الحكمة " ، يكتب محمود درويش بعد فترة عصيبة قضاها في بيروت أيام القصف الإسرائيلي كانت فيها حياته معرّضة للتلاشي والتلف في أي لحظة . إنه يعلن بشكل متكرر في بقيّة كتاباته بعد ذلك عن امتنانه العميق للموت كدليل أرشده طوال فترات حياته لتثمين قيمة الحياة التي يعشيها أكثر من أي دليل آخر . إنه يكتب : "على هذه الأرض مايستحق الحياة" ، في حين أن غيره ممن لم يعش الحرب ولم يجرب طعم مرارة السجون والتشرّد يتحدث كل يوم من على كنبة بيته بأن الحياة عبث ومضيعة وقت وليس لها أي قيمة تُذكر ! .. الموت كفيل بالسخرية من هؤلاء عندما يمر بجوارهم في يوم من الأيام ...

في الفيلم ، نلاحظ بأن بطل قصتنا ( ماتانابي ) يتوقف عن الذهاب إلى عمله الذي لم يتغيّب عنه ليوم واحد طوال الثلاثين عاماِ التي قضاها فيه . إنه يحاول أن يأخذ بعض الوقت لنفسه ليتبيّن موضع قدميه ; ماخسره وما هو قادر على اللحاق به خلال الشهور القليلة المتبقية في حياته . إنه يشعر في البدء بالحزن والكآبه ، ولكنه سرعان ما يحس بعد ذلك بإرادة الحياة تدّب في أطرافه . إنه يرغب في عمل شيء مفيد لنفسه وللآخرين ولكنه لا يعرف ماذا يمكن أن يكون ذلك الشيء . تُلهمه موظفة شابّة مليئة بالحياة في القسم الذي يعمل فيه - لم تكن قد تلوّثت بالقيم البيروقراطية والإجتماعية واستسلمت لها بعد -  بما يمكنه أن يعمل . يشكرها بحرارة ، ثم يبدأ في الحال بالشروع في تنفيذ ذلك العمل حتى آخر يوم من حياته ...

ikiru-backgrounds-23

أجد نفسي ممتناً للسينما بعد مشاهدة مثل هذا النوع من الأفلام على العموم . إنه يذكّرني بما قاله المخرج السينمائي آندريه تاركوفسكي في كتابه ( النحت في الزمن ) عن وظيفة الفن :“ إن وظيفة الفن لا تكمن ، كما يُفترض غالباً ، في ترجمة الأفكار بنجاح ، أو نشر الفكر ، أو تقديم العبرة والمثال ، بل أن هدف الفن هو تهيئة الفرد للموت ، حرث روحه وتمهيدها ، وجعلها قادرةً على التوجّه إلى الخير”.

هناك ميثولوجي وكاتب أساطير أمريكي يدعى جوزيف كامبل . في فيلم مدته أكثر من ساعة ، يتم الحديث عن تحليل قام به جوزيف كامبل للعديد من الأساطير بالإضافة إلى الأفلام العالمية والتي وجد بأنها ورغم إختلاف أشكالها إنما تتحدّث عن قصة انسانية واحدة . جوزيف يرى بأن أغلب أبطال الأفلام يمرّون خلال عشرة مراحل متماثلة يمكن اختصارها في ثلاثة منها رئيسية : شعوره بالإنفصال عن الواقع الذي يعيش فيه ، استهلاله في رحلة خارجية/داخلية يجد فيها نفسه التائهة عنه ، واخيراً العودة إلى واقعه مرة اخرى كشخص مختلف عن ماكان عليه . هذه المراحل كما يصفها جوزيف سيمرّ بها إي انسان يرغب بأن يكون بطل نفسه وقائدها . يسميها هو بـ " رحلة البطل " والتي تتكرر في قصة أي انسان ننظر له بأنه قد نجح في ايجاد نفسه .

هذه المراحل يمكن ايجادها في الفيلم الياباني (أن تحيا) على سبيل المثال . فبطل القصة ( ماتانابي ) يجد نفسه يشترك مع الآخرين ممن حوله في حياة رتيبة وروتينية . يعلم بعد ذلك بإصابته بمرض سرطان المعدة ، والذي يمثّل عند جوزيف كامبل مايْعرف بمرحلة ( نداء المغامرة ) والذي يتلقّاه الإنسان عبر إشارات طبيعية وكونية تحيط به على الدوام . هذه المرّة يستمع ماتانابي إلى هذا النداء فيشعر بالإنفصال عن من حوله ، ويبدأ في رحلة يحاول فيها أن يواجه فيها نفسه ومخاوفه المتراكمة في داخله ( التنين ، كما يطلق عليه جوزيف ) . تبدأ مثل هذه المغامرات الداخلية بالمواجهة ومن ثم بالتصالح مع النفس والتعامل مع المخاوف بشكل أذكى وأكثر شجاعة . ليعود بعدها موتانابي إلى واقعه كشخص مختلف يعرف ماذا يريد هذه المرّة ، ويرغب - كنتيجة لإجتيازه تلك المغامرة الداخلية - في تقديم شيء إلى مجتمعه الذي يعيش فيه كنوع من العطاء والنضج ، فيبدأ في انجاز مشروع المنتزه العام الذي كانت أوراقه معلّقة في رفوف الدوائر الحكومية لوقت طويل ، مستغلآً مايملكه من مكانة في عمله ، أو مايسميه جوزيف بـ ( بركة الإنسان الخاصة به ) .

في المقطع الأخير من الفيلم ، يجلس موتانابي في ليلة انتهاء المشروع على أحد أرجوحات المنتزه وهو في قمّة السعادة والفرح بإتمامه . يلمحه شرطي يقوم بدوريته الليلية وهو يغنّي أحد الأغاني اليابانية القديمة التي تدور كلماتها حول رسالة الفيلم ودعوته للإنسان بأن يحيا ويحب حياته فيتأثر بشكل عميق وهو يستمع لها . 

.انتهى
جميع الحقوق محفوظة © رائد فوزان 2024
error: Content is protected !!