مدخل
عادةً ماتكون العلاقة بين الفتاة وأبيها علاقة خاصة ، ومقدسة أحياناً ، يكتنفها الحب والإحترام والنظرة المثالية المتبادلة . ولكن ، قد تتعرض تلك العلاقة لبعض الإختبارات التي قد تدفع أحد الطرفين لفعل أشياء لا يرغب بها تلبيةً لرغبة الطرف الآخر مما يسبب ارتباكاً مؤقتاً للعلاقة ، أو ربما أفضى ذلك إلى عدم عودة العلاقة إلى ماكانت عليه من قبل .
ايقاع دائري
الكثير من الأباء يجدون في أبنائهم فرصةً ثانية لتعويض تلك الحياة التي تنازلوا عنها لآبائهم ، فيختارونها لهم . ولأن الأبناء يعيشون حياةً قد أُختيرت لهم ويرتبطون بأشخاص لا يرغبون بهم فإنهم ، في الغالب ، سيكررون ذلك الأمر مع أبنائهم بعد ذلك . وهكذا ... ايقاع دائري متكرر يعمل بصمت تحت سطح اجتماعي تطفو عليه عبارات يومية متجدّده توحي بأن معظم أفراده يملك قراراته بيده .
رياح شديدة تحمل معها ورود أبريل :
يُفتتح الفيلم بمشهد يتنبّى بحدوث تغيّر في المسارات الدائرية في المجتمع . فكل جيل قادم يحمل عاصفته الخاصة به معه ليهزّ بها ثوابت وتقاليد مجتمعه . هذه سنّة كونية ليس لها علاقة بمؤمرات خارجية كما تحاول الأجيال القديمة أن تصوّره دائماً . فهذه العواصف تحدث في كل المجتمعات بسرعات وأشكال متفاوته تعتمد على الجيل الذي يأتي بها ويحملها معه .
اعتراف
يبدأ الفيلم بخطاب يقوم على المكاشفة والإعتراف الداخلي للأب برأيه الخاص تجاه طريقة الزواج التقليدية الذي يعتمدها هو بنفسه لأبنائه . فنجده في زفاف إبنة صديقه يلقي خطاباً قصيراً يُبدي فيه فرحته بأن الطرفين قد إختار كل منهما الآخر ، وبأنهما يجب أن يعتبرا نفسهما محظوظين بسبب ذلك لأن هذا لا يحدث كثيراً وخاصة عندما كان هو في عمرهما . مثل هذه المكاشفات تذكرني بمكاشفات شخصيات الروائي دوستويفسكي . فالإنسان غالباً هو من يقوم بخداع نفسه منذ البداية قبل أن يقوم شخص آخر بذلك .
نحن قلقون . هذا كل مافي الموضوع
سن البلوغ الذي يرافقه نضوج فكري يسبب الإرتباك دائماً . فعندما يضحّي الأب بحياته إكراماً لوالديه فيعيش الحياة التي اختاروها له ، فإن من الطبيعي بالنسبة له أن يتوقّع من أبنائه أن يفعلوا ذات الأمر معه . هو إنما يرتبك عندما يرى بعض علامات النضوج عند أحد أبنائه خوفاً من أن يحيد ذلك الإبن عن المسار الدائري المرسوم له . كل شيء يجب أن يسير كما هو متوقع .. هكذا يجب أن تفعل الفتاة الجيدة والشاب البار في عُرف المجتمع حتى لا يسببوا للأب العزيز والأم الطيبة قلقاً دائماً لا سمح الله .
مخططات الوالدين
يبدأ الوالدان بالتخطيط لزواج أبنائهم عندما يسبب لهما الأبناء القلق الكافي لذلك . في الفيلم يمكننا أن نلامس هذا الهم المشترك بين الأباء والأمهات في أحاديثهم الخاصة التي تدور بينهم ؛ ماذا فعلت مع ابنتك ؟ وماذا ستصنع ؟ وماهو مخططك المرسوم لذلك ؟ وغيرها من الأسئلة . تبدأ الفتاة في التحوّل في نظر الأب والأم من الكائن اللطيف المحبوب إلى الهم الملقى على الأكتاف والذي لابد من أن يتم التخلّص منه بطريقة ما . هذا الهم نوع من الهاجس الفطري التي يحمله الأباء لأبنائهم لكن الفرق هو في طريقة التعامل مع هذه الهاجس والذي يختلف من أب لآخر ومن أم لأخرى .
نحن أيضاً لدينا مخططاتنا !
الأحاديث التي يتداولها الأباء مع بعضهم بخصوص أبنائهم ، يتم تداولها بطريقة مقابلة عندما يتحدث الأبناء مع أصدقائهم المقرّبين منهم . يعرض الفيلم على التوازي لقاء الأب مع صديقه ولقاء الإبنة مع ابنة عمها وصديقتها بشأن تلك المخططات . الأباء يخططون للحفاظ على تقاليدهم في الزواج والأبناء على الطرف الأخر يخططون للحفاظ على حرّيتهم في اتخاذ القرار الذي يرونه مناسباً لهم .
مواجهة لابد منها
في العادة يكون الأب هو البادئ بمواجهة ابنته أو ابنه بمخططاته . في الفيلم يحدث هذا بشكل عكسي ، فالابنة والشاب الذي ترغبه هم من يبدأون تلك المواجهة ليضعوا الأب في موضع الدفاع . هذا الإندفاع الشبابي يحتاج إلى شجاعة ونضج كافيين لا تتوفر عادةً عند أي جيل متذبذب لم يقرر بعد مايريده . فالشجاعة لديهما كانت تتمثّل في الإقدام لأنهما يعرفان بعضهما بشكل جيد وكاف ، والنضج كان متمثلاً في الأدب في الحديث معه بالإضافة إلى توقّع مسبق بأنه لن يوافق على ذلك .
ايناري .. آلهة الثعالب
في الفيلم نجد بأن خالة الفتاة تستخدم هذا السلاح الديني المشوّه التعريف ضد ابنتها فتدعوها إلى الصلاة لآلهة الثعالب وطلب الغفران منها حتى لا تغضب أمّها عليها . هذا السلاح العاطفي في كثير من الأحيان يثني الكثير من الأجيال الشابه من الإقدام على قرارات اتخذوها هم بأنفسهم . فالكثير منهم لا يريد أن يظهر في نظر المجتمع بأنه عاق لوالديه أو أنه لا يتقيّد بما يقررونه له بعد كل هذا الجهد والتعب الذي امضوه في تربيته . ولأن الفيلم يصوّر قوة الجيل الياباني الشاب في ذلك الوقت ومدى عناده وتمسّكه بآرائه فإننا نجد بأن الفتاة تسخر بشكل مؤدب من رغبة أمها ، بل بالعكس ، هي من ترى بأن أمها تتصرف بشكل غير عقلاني ولا منطقي في أغلب الأوقات .
بر الوالدين
في الفلسفة يقال بأن أول خطوة لحل مشكلة ما هي تسمية الأشياء بمسمياتها . يبدأ ذلك من إنتقاء المفردات اللغوية الصحيحة ووضعها في مكانها المناسب . فعندما تسمي الفتاة والشاب تنازلهما عن حقّهما الربّاني الممنوح لهما في إختيار مايرغبون القيام به من اختيار تخصص دراسة او عمل أو ارتباط وغيرها من القرارات الفردية بأنه دلالة على ( برّهم للوالدين ) فهذه تسمية لغوّية خاطئة في غير مكانها . وعندما يقوم الفرد باختيار المفردات اللغوية الخاطئة فإنه بذلك ينفي وجود المشكلة ولن يشعر حينها بأن هناك أمراً خاطئاً في الطريقة التي يعيشها .
" عليك أن تثق بي يا أبي "
لا أظن من أن الكثير من الأباء والأمّهات يرغبون بعناد مميت وصارم من أن يحرموا أبنائهم من أن يعيشوا الحياة التي يريدونها لأنفسهم . فتحت مظهر خشونة التعامل والغضب والشدّة التي تبدو على الكثير منهم ، إلا أنهم مدفوعون بشكل فطري بعاطفة تشدّهم لرؤية أبنائهم يعيشون بالطريقة التي يحبونها . ولهذا من الضروري جداً بأن يعرف الشاب وتعرف الشابة بأن تلك العاطفة الأبوية تحتاج لعلامات ظاهرية وسلوكية منهم حتى تظهر وتنبثق تلك العاطفة في التعامل . يمكن أن نرى ذلك في الفيلم في الطريقة التي تتعامل فيها الفتاة مع أبيها وفي الطريقة التي يخاطب بها الشاب والد الفتاة ، وفي الطريقة أيضاً التي يتعاملان فيهما مع بعضهما ومع المسألة بصبر وروّيه . فبقدر قلق الأب حيال هذا الموضوع إلا أنه يشاهد مع مرور الوقت علامات نضج تجعله يطمئن أكثر فأكثر من أن ابنته ناضجة بما يكفي لتقرر هي عن نفسها .
الأمر لا يتعلق بالسعادة
في محادثة بين الأب وابنته في الفيلم يعبّر الأب عن رغبته في حمايتها من زواج قد لا يكون سعيداً ، فتجيبه الفتاة بأن هذا الأمر ليس له علاقة بالسعادة . هذا جواب ذكي وصحيح جداً لأن المسألة هنا ليست مسألة مبنيّة على السعادة بل هي مسألة تتعلق بمبدأ وحق تقرير الإنسان لمصيره في هذه الحياة . إنه أمر يتعلّق بحمل الإنسان لمسؤوليته الفردية تجاه اختياراته في هذه الحياة انطلاقاً من المبدأ الكوني الذي منح له . فمهما كانت نتيجة قراراتنا الفردية فإن المرء يشعر بسعادة تتبعها لأنه يشعر بأنه هو نفسه من يرسم طريق حياته وليس شخص آخر غيره . هكذا تتعلم الأجيال الشابة مسؤوليتها وهكذا أيضاً تتعلم من أخطائها ، في حين أنه لو اعتمد الجيل على خيارات غيره له فإنه سيكون جيلاً كسولاً متواكلاً لا شخصية له ينتظر دائماً من يأخذ بيده ويقوده .
الأمر أيضاً ليس تحدياً
من الصعب على الأب بأن يرى ابنته تتزوج من غير موافقته . انه يجد في ذلك تحدّياً شخصياً له ولمكانته في العائلة والمجتمع المحيط به أيضاً . لهذا يقرر الأب أن لا يحضر زفاف ابنته لأنه يرى في ذلك اعترافاً رسمياً بهزيمته أمامها . من أحد اللقطات الرائعة والمؤثرة في الفيلم مشهد صعود الأم لدرج الطابق الثاني لإخبار ابنتها التي تقوم بحزم حقائبها إستعداداً للرحيل بأن أباها قد قرر اخيراً أن يحضر زفافها بالغد . بكاء الفتاة من أجمل المشاهد التي تمثّل المعنى الحقيقي لبرّ الفتاة لأبيها وحبها له . فالبر الحقيقي يعني بأني ، حتى وإن لم يوافق أبي على قراراتي التي اخترتها لنفسي ، فإني بالرغم من كل محاولاته الحثيثه لعرقلتها إلّا أني أريده معي وبقربي في كل قرار اتخذه في هذه الحياة . كان مشهد البكاء مزيجاً من فرحتين : فرحة الإنسان بنجاح مسعاه وجهده آخيراً وفرحاً آخر بوجود من نحب بقربنا في كل مرحلة نجتازها لأن المسألة ليست مسألة تحدي وفرض الآراء كما يعتقد الأب ، إنما هي مسألة حماية لحرّيتنا وتحمّل المسؤولية التي تأتي معها .
قصيدة موت المحارب الوطني
يجتمع الآباء في مناسبة للمّ الشمل بعد سنوات طويلة لتظهر فيها نتائج معاناتهم وتعبهم من مواجهة الأجيال الصاعدة ( الخارجة عن السيطرة ) . يتمثل ذلك الإنهاك في قصيدة موت المحارب الوطني الذي كانوا يتغنون بها في شبابهم . تقول القصيدة في بدايتها :
مبادئ والدي النبيلة
منقوشة على قلبي
سأتبع بإخلاص أمر الأمبراطور
يمكن أيضاً أن نلاحظ استخدام المخرج لمشهد القطار كأول وآخر لقطتين في الفيلم دلالةً على تعاقب السنوات والأجيال وما يلحق ذلك من تغيّرات اجتماعية سريعة يصعب أحياناً على الأجيال القديمة مجاراتها . فنحن نرى الأب في المشهد الآخير وهو يستقل قطاراً لزيارة ابنته في هيروشيما . يقوم عند اقتراب الكاميرة منه من ترديد أبيات القصيدة السابقة إلّا أن صوت صرير سكة الحديد يعلو على صوت ترديده الذي أصبح مع إيقاع التغيير المتسارع صوتاً قديماً لا يمكن تميزه أو سماعه .
الفيلم تم تصويره قبل مايقارب ٦٤ عام تقريباً . هكذا هي الأعمال الفنّية الجيدة ، يمكن أن تشاهدها في أي حين لأنها تحمل في داخلها رسائل انسانية تخاطب أفكار وهموم كل الأجيال بإختلاف لغاتها وجنسياتها ومعتقداتها ...